كتب الصحفي الأسترالي “جون كين” مقالا قائلا فيه: بعد توقف الوعد بالإصلاح الديمقراطي في العالم العربي يواجه تحديات جديدة، وذلك بشكل خاص في تونس، فقد كانت من بين القوى الإقليمية الأولى التي ساهمت في إشعال ما سُمي بالربيع العربي عام 2011، حيث قامت بإسقاط الديكتاتورية الفظيعة لزين العابدين بن علي، الذي كان في السلطة لمدة تقرب من 25 عامًا، فيما يعرف بالثورة الياسمينية أو ثورة الكرامة
ومع ذلك فإن قوى الاستبداد تكبح مجددًا النهضة الديمقراطية في تونس. فالترهيب والاعتقالات والسجن والضرب والتنكيل تكثر. ويُعَتَبَرُ اختطاف الشرطة السياسية للشيخ راشد الغنوشي، الزعيم الروحي والسياسي الأكثر تأثيرًا في البلاد، ومحاكمته وإدانته تأكيدًا مقلقًا على هذا الاتجاه القبيح.
وأكد كين انه تعرف لأول مرة على الشيخ الغنوشي في أوائل التسعينات، بعد أن وصل إلى لندن وهو في المنفى، حيث ساهم في مؤتمر عام نظمته حول مشاركة السلطة في الإسلام. أثار إعجابي هدوءه الفكري ونزاهته التامة وفضوله العالمي. في تلك الأيام، كنا نتحدث كثيرًا عن أهمية المساءلة السياسية والتواضع. كانت هذه الفضائل تكمن في قلبه.
وتابع جون كين في مقاله “بالنسبة للشيخ الغنوشي، الذي ولد كابن لفلاح في قرية واحة قرب حمة، على حافة الصحراء الكبرى، يُنصح في اللاهوت الإسلامي (العقيدة) بعدم الاستبداد وعدم التنمر وعدم العنف. فالدين لا يُسمح له بالغطرسة والإكراه، وهذا ما جادل فيه في كتابه “حريات العامة في الدولة الإسلامية” عام 1993. وفي هذا الكتاب، قدم حججًا يؤكد فيها أن الله منح المؤمنين وغير المؤمنين حقوقًا في الكرامة والمساواة ومجموعة واسعة من الحريات، بما في ذلك حرية الصحافة و ملكية الممتلكات والدين. وقد كانت هذه النقاط مبنية على الإيمان، فحسب الإسلام، فإنه لا يُفتَرَضُ أن يقرر الحكومة أو المنظمة السياسية أمورًا عشوائية لمواطنيها. “لا مكان للكنائس أو الباباوات يدعون أن لديهم مفاتيح السماء”، هكذا كان يقول في كثير من الأحيان. حق تفسير الكتب المقدسة هو حق كل شخص. ولهذا السبب، رفض الغنوشي باستمرار عقيدة العلمانية الفرنسية: فلا يحق لأي دولة أن تُخَصَص إيمانًا دينيًا من خلال فرض الفصل بين السياسة والدين. واعتبر الغنوشي أن المثل العلماني الفرنسي لا يُعَتَبَرُ شرطًا أساسيًا للديمقراطية، بل هو عدو الحكم الذاتي الديمقراطي الحقيقي.
ومعززًا بإيمانه بالديمقراطية، تمكن الغنوشي من تحقيق إنجازات ملحوظة. قاد حزبه “النهضة” للفوز في الانتخابات التونسية عام 2019 وأصبح رئيسًا للبرلمان. وحاز على جائزة ابن رشد لحرية الفكر العالية وتم تصنيفه من قبل مجلة “تايم” عام 2012 ضمن قائمة أكثر 100 شخصية تأثيرًا في العالم.
تم وضع الأسس لدور القيادة الجديد للغنوشي من خلال عودته المظفرة إلى تونس عام 2011 بعد أكثر من عقدين من الزمن في المنفى. واستقبل في مطار قرطاج بالآلاف من المواطنين، بعضهم يحملون أغصان الزيتون والزهور، والبعض الآخر يتسلقون الأشجار وأعمدة الكهرباء لمشاهدته للمرة الأولى. صاح “الله أكبر!” مرفوعًا يديه عاليًا، قبل أن يقول للصحفيين إنه ليس مثل آية الله الخميني. “نحن نقبل الديمقراطية بدون أي قيود”، قال. “نحترم قرار الشعب سواء كانوا معنا أم ضدنا.” وأعرب عن رغبته في العيش في بلد يستند إلى “احترام العدالة والمساواة”، وشرح أن هدفه هو أن يعيش في بلد يتمتع فيه كل امرأة بحقها الممنوح من الله لاختيار ارتداء الحجاب أو عدمه.
هذه الكلمات أرعبت المنظومة السياسية المعادية للثورة، ولكن الغنوشي، الذي يحاول جاهدًا أن يعيش وفقًا لمبادئ الإيمان التي ناقشناها لساعات عديدة، وقف بثبات. جاءت الأكاذيب والأخبار الكاذبة والتهديدات بالقتل والتهم القانونية المزيفة والحيل السياسية لتواجهه. وكذلك اتهمه النقاد بالبقاء في السياسة لفترة طويلة. حثه النقاد على التراجع عن المناصب العليا وأن يكون المدافع العام عن المجتمع المدني، تمامًا كما فعل آدم ميشنيك في بولندا وأسقف جنوب أفريقيا ديزموند توتو بنجاح.
ولكن الغنوشي لم يتراجع. كان له رؤية أكثر شمولًا وطموحًا. كان يدرك تمامًا أن الشعب يحتاج إلى قادة يؤمنون بالتغيير السلمي والتمسك بالمبادئ الأخلاقية. كان يعتقد أنه إذا انتصر الظالمون، فإن الخطأ ليس في الديمقراطية، ولكنه في الشعب نفسه، الذي لم ينجح في الدفاع عن قيمه الحقيقية. وقد قرر العمل على تعزيز التوعية السياسية وتشجيع المشاركة المدنية، وتمكين النساء والشباب والأقليات وجميع فئات المجتمع من المشاركة الفعالة في العملية السياسية.
المصدر: موقع “the nation”